وليصل لك كل جديدنا تـابعنا بتويتر Follow @bein_live
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله لفظة الورود في القرآن الكريم
قال الله تعالى:
وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا
[مريم: 71 - 72].
وقد جاءت لفظة الورود في القرآن الكريم _ مرادا به الدخول في النار _ في ستة مواضع، في قوله تعالى في الآيات الآتية:
1- وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 71 ].
2- يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [ هود: 98 ]
3- وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ[ هود: 98 ].
4 - لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوها [ الأنبياء: 99]
5- وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إلى جَهَنَّمَ وِرْدًا[ مريم: 86 ]
6- حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [ الأنبياء: 98 ]
وكان ابن عباس يستند إلى هذه الآيات في تفسيره للورود بالدخول في النار فهل الورود المذكور في الآيات يراد به الدخول في النار؟ أو مجرد المرور من غير إحساس بها؟ الواقع أن هذه المسألة هي من المسائل التي فيها خلاف بين العلماء في زمن الصحابة ومن بعدهم.
أقوال العلماء في معنى الورود
اختلف العلماء في المراد بهذا الورود إلى أقوال كثيرة، يمكن إيجازها فيما يلي:
1- الورود المذكور في الآية: يراد به الدخول في النار
2- يراد به المرور عليها؛ أي فوق الصراط
3- يراد به الدخول, ولكن عني به الكفار دون المؤمنين
4- أنه عام لكل مؤمن وكافر, غير أن ورود المؤمن المرور, وورود الكافر الدخول
5- ورود المؤمن ما يصيبه في الدنيا من حمى ومرض
6- أنه يردها الجميع ثم يصدر عنها المؤمنون بأعمالهم
وتلك أشهر الأقوال.
وهناك أقوال أخرى ذكرها بعض أهل العلم منها:
7- القول بالتوقف في معنى الورود
8- ومنها القول بأن المراد بالورود هنا هو الإشراف و الاطلاع و القرب منها، حيث يكونون وهم في الموقف يشاهدون النار؛ فينجيهم الله مما شاهدوه.
ونبدأ الآن بذكر عزو تلك الأقوال إلى أهلها ثم الترجيح فيما يأتي:
أما الذين فسروه بالدخول, من السلف: فمنهم ابن عباس, وابن مسعود وعبد الله بن رواحه, وجابر بن عبد الله, وأبو ميسرة, وابن جريج, وخالد ابن معدان.
أما ابن عباس, فقد اشتهر رأيه هذا, في جوابه لنافع بن الأزرق في مساءلات نافع لابن عباس المشهورة، فقد جاء نافع يسأل ابن عباس عن معنى الآية فقال ابن عباس: الورود: الدخول، وقال نافع: لا، فقرأ ابن عباس: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [ الأنبياء: 98 ]
أورود هو أم لا؟ وقال: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [ هود: 98 ]،
أورود هو أم لا؟ أما أنا و أنت فسندخلها، فانظر هل تخرج منها أم لا؟ وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك، قال: فضحك نافع.
و في رواية أخرى لعطاء بن أبي رباح قال: قال أبو راشد الحروري – يعنى نافع بن الأزرق -: ذكروا هذا؛ فقال الحروري: لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا [ الأنبياء: 102]، قال ابن عباس: ويلك، أمجنون أنت؟ أين قوله تعالى: يقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [ هود: 98 ]،
وقوله: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إلى جَهَنَّمَ وِرْدًا
[ مريم: 86 ]، وقوله وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 71 ]، والله إن كان دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالما و أدخلني الجنة غانما.
و الروايات عن ابن عباس في هذا كثيرة وبطرق متعددة، يرى أن الورود المذكور في الآية يراد به الدخول لكل أحد؛ مسلما كان أم كافرا، وهو المشهور عنه.
قال الجمل: و هذا هو تفسير ابن عباس الصحيح عند أهل السنة.
وأما جابر بن عبد الله رضي الله عنه؛ فقد جاء عن أبي سمية أنه قال: اختلفنا هاهنا في الورود؛ فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعا؛ ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت: إنا اختلفنا ها هنا في ذلك، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعا، فأهوى بأصبعيه إلى أذنيه وقال: ((صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الورود: الدخول)) لا يبقى بر و لا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار – أو قال لجهنم – ضجيجا من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين)) .
و أخرج الطبري بسنده إلى خالد بن معدان قال: (قال أهل الجنة بعدما دخلوا الجنة: ألم يعدنا ربنا الورود على النار؟ قال: قد مررتم عليها وهي خامدة).
و أخرج كذلك عن غنيم بن قيس قال: (ذكروا ورود النار، فقال كعب: تمسك النار للناس كأنها متن إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق، برهم وفاجرهم ثم يناديهم مناد: أن أمسكي أصحابك ودعي أصحابي، قال: فيخسف بكل ولي لها، ولهي أعلم بهم من الرجل بولده، ويخرج المؤمنون ندية أبدانهم، قال: و قال كعب: ما بين منكبي الخازن من خزنتها مسيرة سنة، مع كل واحد منهم عمود له شعبتان، يدفع به الدفعة فيصرع به في النار سبعمائة ألف).
و أخرج عن أبي إسحاق، قال: (كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي فقيل: وما يبكيك يا أبا ميسرة؟ قال: أخبرنا أنا واردوها، ولم يخبرنا أنا صادرون عنها).
و عن قيس بن أبي حازم قال: (بكى عبد الله بن رواحة في مرضه فبكيت امرأته، فقال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال ابن رواحة: إني قد علمت أني وارد النار فما أدري أناج منها أنا أم لا؟)
و قال أبو عمرو داود بن الزبرقان: سمعت السدي يذكر عن مرة الهمداني عن أبي مسعود: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا
[ مريم: 71 ]،
قال: داخلها.
و أخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه سئل عن قوله: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا[ مريم: 71 ]، قال: وإن منكم إلا داخلها
والروايات عن ابن مسعود كثيرة يفسر الورود في النار بالدخول فيها.
ومما يدل على أن الورود المراد به الدخول: ما جاء عن سهل بن معاذ عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((من حرس وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا يأخذه سلطانه بحرس، لم ير النار بعينه، إلا تحلة القسم، فإن الله تعالى يقول: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 71 ]))
وكذا ماجاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات له ثلاثة لم تمسه النار إلا تحلة القسم)) يعنى الورود.
هذا ما يتعلق بالرأي الأول وهو تفسير الورود بالدخول في النار، وهل ذلك يشمل الأنبياء والرسل وخاصة المؤمنين أو لا؟ سيأتي جوابه في مسألة خاصة به بعد عرض آراء العلماء في الورود.
2- أما الرأي الثاني وهو تفسير الورود بالمرور عليها:
فهو رأي قتادة وغيره من علماء السلف وفي هذا يقول الطبري: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة:
وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 71 ]
يعنى: جهنم، مر الناس عليها. وفي رواية أخرى عن معمر عن قتادة بما سبق.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول عند حفصة: ((لا يدخل النار – إن شاء الله – من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها، قالت: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقالت حفصة:وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 71 ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قال الله عز وجل: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [ مريم: 72 ] )) .
قال النووي عن معنى الحديث ((لايدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة. .....)) إلخ.
قال العلماء: معناه لا يدخلها أحد منهم قطعا – كما صرح به في الحديث الذي قبله – و إنما قال: إن شاء الله؛ للتبرك لا للشك
وحديث حاطب الذى أشار إليه النووي هو ما رواه جابر رضي الله عنه: ((أن عبدا لحاطب جاء الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا فقال يا رسول الله، ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، لا يدخلها؛ فإنه شهد بدرا والحديبية))
و أما قول حفصة: بلى، وانتهار النبي صلى الله عليه وسلم لها؛ فقالت: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 71 ]،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقد قال: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا[ مريم: 72 ] –
فيه دليل للمناظرة والاعتراض و الجواب، على وجه الاسترشاد؛ وهو مقصود حفصة؛ لا أنها أرادت رد مقالته صلى الله عليه وسلم، والصحيح أن المراد بالورود في الآية: المرور على الصراط؛
وهو جسر منصوب على جهنم
و يقول ابن أبي العز: واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا
[ مريم: 71 ]
ماهو؟ والأظهر والأقوى: أنه المرور على الصراط، قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا
[ مريم: 72 ] .
ثم قال في تعليقه على حديث حفصة المتقدم: (أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا تسلتزم حصوله؛ بل تستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه عدوه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه، يقال: نجاه الله منهم، ولهذا قال تعالى:وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا [ هود: 58 ].
فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا [ هود: 66 ]. وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا [هود: 95] ولم يكن العذاب أصابهم ولكن أصاب غيرهم، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك، و كذلك حال الوارد في النار، يمرون فوقها على الصراط، ثم ينجي الله الذي اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا).
أما الرأي الثالث: وهو القول بأن الورود هو الدخول، لكنه عنى الكفار دون المؤمنين، فإن هذا الرأي يعزى إلى ابن عباس أيضا وقد ذكر هذا عنه الطبري دون تعيين اسم الراوي عن ابن عباس؛ بل قال بسنده عن شعبة قال: أخبرني عبد الله بن السائب عن رجل سمع ابن عباس يقرؤها: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا[ مريم: 71 ]؛
يعنى الكفار، قال: لا يردها مؤمن .
ويعزى كذلك إلى عكرمة: أن المراد بالورود هنا ورود الكفار.
ويذكر ابن كثير عنهما أنهما كانا يقرآن الآية وَإِن مِّنهمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 71 ] يعنى الكفار.
قال الجمل: لمناسبة الآيات التي قبل هذه، فإنها في الكفار وهي قوله: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ,ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ، أَيُّهُمْ أَشَدُّ، ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا، وَإِن مِّنكمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 68-71 ] وكذلك قرأ عكرمة وجماعة، لكن الأكثرون على أن المخاطب العالم كلهم كما تقدم.
أما الرأي الرابع: وهو أن الورود عام لكل مؤمن وكافر، غير أن ورود المؤمن: المرور، وورود الكافر: الدخول؛ فهذا رأي ابن زيد، وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
قال الطبري: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا[ مريم: 71 ]
: ورود المسلمين: المرور على الجسر بين ظهريها، وورود المشركين أن يدخلوها، قال النبي الله صلى الله عليه وسلم: ((الزالون والزالات يومئذ كثير و وقد أحاط الجسر سماطان من الملائكة ودعواهم يومئذ: يا الله، سلم سلم))
أما الرأي الخامس: وهو أن ورود المؤمن ما يصيبه في الدنيا من حمى ومرض: فإنه يعزى هذا القول إلى مجاهد أنه قال: الحمى حظ كل مؤمن من النار، ثم قرأ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 71 ]
ويستدل له بما أسنده الطبري إلى أبي هريرة قال:((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلا من أصحابه وبه وعك، وأنا معه، ثم قال: إن الله يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة)) .
أما الرأى السادس: وهو أن معنى الورود: هو أن يردها الجميع، ثم يصدر عنها المؤمنون بأعمالهم؛ فهذا القول يعزى أيضا إلى عبد الله بن مسعود ، وقد سبق أن أشرنا إلى أنه يفسر الورود بالدخول.
ومن الأدلة لهذا القول: ما أخرجه الترمذي و الإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((يرد الناس النار، ثم يصدرون منها بأعمالهم، فأولهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب في رحله, ثم كشد الرجل، ثم كمشيه)). قال الترمذي بعد أن أخرجه: هذا حديث حسن. وهو مرفوع من رواية السدي عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود، ورواه شعبة عن السدي فلم يرفعه، وقال عبد الرحمن بن مهدي – أحد رواة الحديث –: قلت لشعبة: و قد سمعته من السدي مرفوعا ولكني عمدا أدعه. والحاصل أن الحديث مرفوع
أما بالنسبة للقول السابع؛ وهو القول بالتوقف:
فهو ما ذكره الشوكاني بعد أن نسبه إلى كثير من العلماء، وذلك في قوله: (وقد توقف كثير من العلماء عن تحقيق هذا الورود، وحمله على ظاهره لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ
[ الأنبياء: 101 ]،
قالوا فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده عنها).
فسبب توقفهم عن تحقيق القول في الورود: أن الله أخبر أن من سبقت لهم الحسنى لا يردون النار، وأخبر في سورة مريم أنه ما من أحد إلا وسيرد النار؛ فصاروا إلى التوقف.
لكن الآية - إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى[ الأنبياء: 101 ]
إلى آخرها – تقوي قول من ذهب إلى أن الورود يراد به المرور العادي وعدم الدخول؛ وهو ما يذهب إليه بعض العلماء.
و في هذا يقول الشوكاني: (ومما يدل على أن الورود لا يستلزم الدخول: قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ
[ القصص: 23 ]فإن المراد أشرف عليه لا أنه دخل فيه، وقول زهير:
وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا
[مريم: 71 - 72].
وقد جاءت لفظة الورود في القرآن الكريم _ مرادا به الدخول في النار _ في ستة مواضع، في قوله تعالى في الآيات الآتية:
1- وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 71 ].
2- يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [ هود: 98 ]
3- وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ[ هود: 98 ].
4 - لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوها [ الأنبياء: 99]
5- وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إلى جَهَنَّمَ وِرْدًا[ مريم: 86 ]
6- حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [ الأنبياء: 98 ]
وكان ابن عباس يستند إلى هذه الآيات في تفسيره للورود بالدخول في النار فهل الورود المذكور في الآيات يراد به الدخول في النار؟ أو مجرد المرور من غير إحساس بها؟ الواقع أن هذه المسألة هي من المسائل التي فيها خلاف بين العلماء في زمن الصحابة ومن بعدهم.
أقوال العلماء في معنى الورود
اختلف العلماء في المراد بهذا الورود إلى أقوال كثيرة، يمكن إيجازها فيما يلي:
1- الورود المذكور في الآية: يراد به الدخول في النار
2- يراد به المرور عليها؛ أي فوق الصراط
3- يراد به الدخول, ولكن عني به الكفار دون المؤمنين
4- أنه عام لكل مؤمن وكافر, غير أن ورود المؤمن المرور, وورود الكافر الدخول
5- ورود المؤمن ما يصيبه في الدنيا من حمى ومرض
6- أنه يردها الجميع ثم يصدر عنها المؤمنون بأعمالهم
وتلك أشهر الأقوال.
وهناك أقوال أخرى ذكرها بعض أهل العلم منها:
7- القول بالتوقف في معنى الورود
8- ومنها القول بأن المراد بالورود هنا هو الإشراف و الاطلاع و القرب منها، حيث يكونون وهم في الموقف يشاهدون النار؛ فينجيهم الله مما شاهدوه.
ونبدأ الآن بذكر عزو تلك الأقوال إلى أهلها ثم الترجيح فيما يأتي:
أما الذين فسروه بالدخول, من السلف: فمنهم ابن عباس, وابن مسعود وعبد الله بن رواحه, وجابر بن عبد الله, وأبو ميسرة, وابن جريج, وخالد ابن معدان.
أما ابن عباس, فقد اشتهر رأيه هذا, في جوابه لنافع بن الأزرق في مساءلات نافع لابن عباس المشهورة، فقد جاء نافع يسأل ابن عباس عن معنى الآية فقال ابن عباس: الورود: الدخول، وقال نافع: لا، فقرأ ابن عباس: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [ الأنبياء: 98 ]
أورود هو أم لا؟ وقال: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [ هود: 98 ]،
أورود هو أم لا؟ أما أنا و أنت فسندخلها، فانظر هل تخرج منها أم لا؟ وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك، قال: فضحك نافع.
و في رواية أخرى لعطاء بن أبي رباح قال: قال أبو راشد الحروري – يعنى نافع بن الأزرق -: ذكروا هذا؛ فقال الحروري: لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا [ الأنبياء: 102]، قال ابن عباس: ويلك، أمجنون أنت؟ أين قوله تعالى: يقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [ هود: 98 ]،
وقوله: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إلى جَهَنَّمَ وِرْدًا
[ مريم: 86 ]، وقوله وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 71 ]، والله إن كان دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالما و أدخلني الجنة غانما.
و الروايات عن ابن عباس في هذا كثيرة وبطرق متعددة، يرى أن الورود المذكور في الآية يراد به الدخول لكل أحد؛ مسلما كان أم كافرا، وهو المشهور عنه.
قال الجمل: و هذا هو تفسير ابن عباس الصحيح عند أهل السنة.
وأما جابر بن عبد الله رضي الله عنه؛ فقد جاء عن أبي سمية أنه قال: اختلفنا هاهنا في الورود؛ فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعا؛ ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت: إنا اختلفنا ها هنا في ذلك، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعا، فأهوى بأصبعيه إلى أذنيه وقال: ((صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الورود: الدخول)) لا يبقى بر و لا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار – أو قال لجهنم – ضجيجا من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين)) .
و أخرج الطبري بسنده إلى خالد بن معدان قال: (قال أهل الجنة بعدما دخلوا الجنة: ألم يعدنا ربنا الورود على النار؟ قال: قد مررتم عليها وهي خامدة).
و أخرج كذلك عن غنيم بن قيس قال: (ذكروا ورود النار، فقال كعب: تمسك النار للناس كأنها متن إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق، برهم وفاجرهم ثم يناديهم مناد: أن أمسكي أصحابك ودعي أصحابي، قال: فيخسف بكل ولي لها، ولهي أعلم بهم من الرجل بولده، ويخرج المؤمنون ندية أبدانهم، قال: و قال كعب: ما بين منكبي الخازن من خزنتها مسيرة سنة، مع كل واحد منهم عمود له شعبتان، يدفع به الدفعة فيصرع به في النار سبعمائة ألف).
و أخرج عن أبي إسحاق، قال: (كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي فقيل: وما يبكيك يا أبا ميسرة؟ قال: أخبرنا أنا واردوها، ولم يخبرنا أنا صادرون عنها).
و عن قيس بن أبي حازم قال: (بكى عبد الله بن رواحة في مرضه فبكيت امرأته، فقال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال ابن رواحة: إني قد علمت أني وارد النار فما أدري أناج منها أنا أم لا؟)
و قال أبو عمرو داود بن الزبرقان: سمعت السدي يذكر عن مرة الهمداني عن أبي مسعود: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا
[ مريم: 71 ]،
قال: داخلها.
و أخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه سئل عن قوله: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا[ مريم: 71 ]، قال: وإن منكم إلا داخلها
والروايات عن ابن مسعود كثيرة يفسر الورود في النار بالدخول فيها.
ومما يدل على أن الورود المراد به الدخول: ما جاء عن سهل بن معاذ عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((من حرس وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا يأخذه سلطانه بحرس، لم ير النار بعينه، إلا تحلة القسم، فإن الله تعالى يقول: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 71 ]))
وكذا ماجاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات له ثلاثة لم تمسه النار إلا تحلة القسم)) يعنى الورود.
هذا ما يتعلق بالرأي الأول وهو تفسير الورود بالدخول في النار، وهل ذلك يشمل الأنبياء والرسل وخاصة المؤمنين أو لا؟ سيأتي جوابه في مسألة خاصة به بعد عرض آراء العلماء في الورود.
2- أما الرأي الثاني وهو تفسير الورود بالمرور عليها:
فهو رأي قتادة وغيره من علماء السلف وفي هذا يقول الطبري: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة:
وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 71 ]
يعنى: جهنم، مر الناس عليها. وفي رواية أخرى عن معمر عن قتادة بما سبق.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول عند حفصة: ((لا يدخل النار – إن شاء الله – من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها، قالت: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقالت حفصة:وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 71 ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قال الله عز وجل: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [ مريم: 72 ] )) .
قال النووي عن معنى الحديث ((لايدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة. .....)) إلخ.
قال العلماء: معناه لا يدخلها أحد منهم قطعا – كما صرح به في الحديث الذي قبله – و إنما قال: إن شاء الله؛ للتبرك لا للشك
وحديث حاطب الذى أشار إليه النووي هو ما رواه جابر رضي الله عنه: ((أن عبدا لحاطب جاء الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا فقال يا رسول الله، ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، لا يدخلها؛ فإنه شهد بدرا والحديبية))
و أما قول حفصة: بلى، وانتهار النبي صلى الله عليه وسلم لها؛ فقالت: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 71 ]،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقد قال: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا[ مريم: 72 ] –
فيه دليل للمناظرة والاعتراض و الجواب، على وجه الاسترشاد؛ وهو مقصود حفصة؛ لا أنها أرادت رد مقالته صلى الله عليه وسلم، والصحيح أن المراد بالورود في الآية: المرور على الصراط؛
وهو جسر منصوب على جهنم
و يقول ابن أبي العز: واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا
[ مريم: 71 ]
ماهو؟ والأظهر والأقوى: أنه المرور على الصراط، قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا
[ مريم: 72 ] .
ثم قال في تعليقه على حديث حفصة المتقدم: (أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا تسلتزم حصوله؛ بل تستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه عدوه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه، يقال: نجاه الله منهم، ولهذا قال تعالى:وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا [ هود: 58 ].
فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا [ هود: 66 ]. وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا [هود: 95] ولم يكن العذاب أصابهم ولكن أصاب غيرهم، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك، و كذلك حال الوارد في النار، يمرون فوقها على الصراط، ثم ينجي الله الذي اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا).
أما الرأي الثالث: وهو القول بأن الورود هو الدخول، لكنه عنى الكفار دون المؤمنين، فإن هذا الرأي يعزى إلى ابن عباس أيضا وقد ذكر هذا عنه الطبري دون تعيين اسم الراوي عن ابن عباس؛ بل قال بسنده عن شعبة قال: أخبرني عبد الله بن السائب عن رجل سمع ابن عباس يقرؤها: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا[ مريم: 71 ]؛
يعنى الكفار، قال: لا يردها مؤمن .
ويعزى كذلك إلى عكرمة: أن المراد بالورود هنا ورود الكفار.
ويذكر ابن كثير عنهما أنهما كانا يقرآن الآية وَإِن مِّنهمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 71 ] يعنى الكفار.
قال الجمل: لمناسبة الآيات التي قبل هذه، فإنها في الكفار وهي قوله: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ,ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ، أَيُّهُمْ أَشَدُّ، ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا، وَإِن مِّنكمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 68-71 ] وكذلك قرأ عكرمة وجماعة، لكن الأكثرون على أن المخاطب العالم كلهم كما تقدم.
أما الرأي الرابع: وهو أن الورود عام لكل مؤمن وكافر، غير أن ورود المؤمن: المرور، وورود الكافر: الدخول؛ فهذا رأي ابن زيد، وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
قال الطبري: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا[ مريم: 71 ]
: ورود المسلمين: المرور على الجسر بين ظهريها، وورود المشركين أن يدخلوها، قال النبي الله صلى الله عليه وسلم: ((الزالون والزالات يومئذ كثير و وقد أحاط الجسر سماطان من الملائكة ودعواهم يومئذ: يا الله، سلم سلم))
أما الرأي الخامس: وهو أن ورود المؤمن ما يصيبه في الدنيا من حمى ومرض: فإنه يعزى هذا القول إلى مجاهد أنه قال: الحمى حظ كل مؤمن من النار، ثم قرأ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 71 ]
ويستدل له بما أسنده الطبري إلى أبي هريرة قال:((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلا من أصحابه وبه وعك، وأنا معه، ثم قال: إن الله يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة)) .
أما الرأى السادس: وهو أن معنى الورود: هو أن يردها الجميع، ثم يصدر عنها المؤمنون بأعمالهم؛ فهذا القول يعزى أيضا إلى عبد الله بن مسعود ، وقد سبق أن أشرنا إلى أنه يفسر الورود بالدخول.
ومن الأدلة لهذا القول: ما أخرجه الترمذي و الإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((يرد الناس النار، ثم يصدرون منها بأعمالهم، فأولهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب في رحله, ثم كشد الرجل، ثم كمشيه)). قال الترمذي بعد أن أخرجه: هذا حديث حسن. وهو مرفوع من رواية السدي عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود، ورواه شعبة عن السدي فلم يرفعه، وقال عبد الرحمن بن مهدي – أحد رواة الحديث –: قلت لشعبة: و قد سمعته من السدي مرفوعا ولكني عمدا أدعه. والحاصل أن الحديث مرفوع
أما بالنسبة للقول السابع؛ وهو القول بالتوقف:
فهو ما ذكره الشوكاني بعد أن نسبه إلى كثير من العلماء، وذلك في قوله: (وقد توقف كثير من العلماء عن تحقيق هذا الورود، وحمله على ظاهره لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ
[ الأنبياء: 101 ]،
قالوا فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده عنها).
فسبب توقفهم عن تحقيق القول في الورود: أن الله أخبر أن من سبقت لهم الحسنى لا يردون النار، وأخبر في سورة مريم أنه ما من أحد إلا وسيرد النار؛ فصاروا إلى التوقف.
لكن الآية - إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى[ الأنبياء: 101 ]
إلى آخرها – تقوي قول من ذهب إلى أن الورود يراد به المرور العادي وعدم الدخول؛ وهو ما يذهب إليه بعض العلماء.
و في هذا يقول الشوكاني: (ومما يدل على أن الورود لا يستلزم الدخول: قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ
[ القصص: 23 ]فإن المراد أشرف عليه لا أنه دخل فيه، وقول زهير:
فلما وردن الماء زرقا جمامة | وضعن عصي الحاضر المتخيم). |
أما القول الثامن – وهو ما ذكره العلامة الجمل عن بعض الفرق بقوله: (وقالت فرقة: الورود هو الإشراف والاطلاع والقرب، وذلك أنهم يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم؛ فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب، ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه، ويصار بهم إلى الجنة، ويذر الظالمين؛ أي يأمر بهم إلى النار)،– فهو بعيد عن معنى الآية والمراد بها .
القول الراجح في معنى الورود:
بعد عرض ما سبق؛ اتضح أن معنى الورود الذي ذكره الله يحتمل معاني كثيرة، ولهذا فقد اختلف كلمة العلماء في تعريفه، والمراد منه، إلى الأقوال التي ذكرناها، والواقع أن تلك الأقوال منها ما هو قريب، ومنها ما هو بعيد إلا أنه يقال: إن القول السادس منها – وهو أنه يردها الجميع، ثم يصدر عنها المؤمنون بأعمالهم – وهو الراجح؛ لتصريح الآية به وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [ مريم: 71 ]
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا
[ مريم: 72 ]
بالإضافة إلى ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف الصراط ومرور الناس عليه بحسب أعمالهم.
ولهذا يقول الطبري في ترجيحه:
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: يردها الجميع ثم يصدر عنها المؤمنون؛ فينجيهم الله، ويهوي فيها الكفار وورودهموها هو ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرورهم على الصراط المنصوب على متن جهنم، فناج مسلم ومكدس فيها.
وقال الشوكاني: (ولا يخفى أن القول بأن الورود: هو المرور على الصراط أو الورود على جهنم وهي خامدة، فيه جمع بين الأدلة من الكتاب والسنة؛ فينبغي حمل هذه الآية على ذلك؛ لأنه قد حصل الجمع بحمل الورود على دخول النار؛ مع كون الداخل من المؤمنين مبعدا من عذابها، أو يحمله على المضي فوق الجسر المنصوب عليها؛ وهو الصراط.
وقد رجح ابن أبي العز أيضا القول بأن الورود يراد به المرور على الصراط كما سبق .
336